تلقيت منذ عدة سنوات بعض المحاضرات في أسلوب العمل ضمن الفريق (Team-Work) كجزء من برنامج أعتمدته
الشركة التي كنت أعمل بها لتنمية مهارات التواصل لدى موظفيها. ومن بين كل
المحاضرات لازلت أذكر تلك المحاضرة المميزة التي شرح لنا فيها المحاضر نظرية
"قبعات التفكير الست" التي وضعها عالم النفس المالطى "إدوارد دى
بونو" وهى بإختصار شديد تتلخص فيما يلى: أنك اذا كنت قائدا لفريق ما – رئيس
مجلس إدارة شركة مثلاً – وأردت أن تتخذ قراراً مهماً فعليك أن تلزم تقسم فريقك الى
ستة فرق – أو اشخاص – يلتزم كل فريق او شخص بارتداء قبعة من القبعات ذات الألوان
الستة (بيضاء، حمراء، سوداء، صفراء، خضراء، و زرقاء) وهى في الواقع ليست قبعات
حقيقية ولكن كل لون منها يرمز الى طريقة تفكير معينة وإلى نمط حياة محدد وأسلوب مميز
في تلقى الأخبار وتحليل الأحداث او المشكلات. وأنماط التفكير حسب نفس ترتيب
الألوان السابق هي : التفكير الحيادى، العاطفى، السلبى، الإيجابى، الإبداعى، والتفكير
الموجه. فعندما يتقمص كل شخص في فريق الإدارة نمطاً من تلك الأنماط ويطرح ما يمكن
أن يفكر فيه أصحاب هذا النمط الفعليين في المجتمع ورد فعلهم المتوقع على القرار
وطريقة تعاطيعهم معه؛ فبالتأكيد سيكون القرار ناجحاً وصحيحاً وعملياً بدرجة كبيرة.
بالتأكيد أن النظرية لا
تهدف أبداً الى تقسيم المجتمع بهدف إدانتهم أو انتقاد طريقة تفكيرهم أو تصنفيهم
إلى فريق من الصالحين الطيبين وآخر من الأشرار، ولكن أن تفهم وتتوقع وتعذر الآخرين
وتحاول قدر ما تستطيع أن تتجنب ردود الفعل المتعبة أو أن تنكأ جراح عميقة بلا
داعٍ. مع ملاحظة أن أحداً لن يحصل على أي فائدة من تطبيقها إن لم يكن مستعداً لدفع
كلفتها الوحيدة وهى الصراحة المطلقة والأمانة الشديدة في تمثيل دور الآخر وارتداء
قبعته تماماً.
أتذكر كل ذلك وأنا أشعر
بخيبة الأمل، كم كنت أتمنى أن ينتهج أول رئيس لمصر بعد الثورة نهجاً علمياً واعيا
يراعى فيه قدر الآمال وحجم الإختلافات التي ظهرت بشكل طبيعى ومتوقع بعد أن أزاحت
الثورة تلك الصخرة التي ظلت جاثمة على صدور كل الإيدولوجيات والأفكار المتنوعة
والإتجاهات الثرية في مصر، حتى يأمن هذا البركان من الغضب الذى يكاد الآن أن يعصف
بالتجربة كلها. ووجدت نفسى أحاول تطبيق ذلك على واقعنا السياسى اليوم وأتفحص أنماط
تفكير التيارات الرئيسية الفاعلة في مجتمعنا، وبدأت أرتدى القبعات وأحاول الفهم
قدر ما استطيع. وبدأت من حيث يجب أن يبدأ التاريخ.
قبعة الثوار، هم في الأصل
شباب ثائر، محتج، متمرد على بعض القيم التي تكرس – في نظرهم – الخنوع والرضى
بالواقع المستقر منذ الاف السنين ولوكان واقعاً ظالماً مستبداً. حركاتهم
الإحتجاجية لم تبدأ في رحابة الثورة وقوتها بل بدأت في ظل القهر والديكتاتورية؛
مما حدا بهم أن يستهينوا بالموت في سبيل التغيير الذى ينشدونه. مثاليون وحالمون
الى ابعد الحدود، لا ترضيهم أنصاف الحلول أو محاولة (تهذيب) الحقائق وتغطيتها. إن
قالوا تغيير فهم يقصدون تغييراً كاملاً لا في الأهداف فحسب بل أيضا في الأساليب
وطريقة التفكير وفى النتائج فضلاً عن الأسماء. وبناءاً عليه فأنك يجب ألا تحدث
أحدهم عن فضائل الاستقرار أو هيبة الدولة أو عبارات مثل (أعتبره ابوك يا أخى) أو
(كفاية مظاهرات البلد هاتخرب) هم ضحوا باستقرارهم الشخصى أسرياً ووظيفياً ومستعدون
أن يبذلوا أرواحهم فداءاً للهدف الأسمى، فإن وجهت لهم مثل تلك العبارات البائسة
صرت في نظرهم شخصاً أنانياً ومواطناً سلبياً خانعاً.
قبعة الإسلاميين، هم مخلصون
لما ترسخ في قناعتهم أنه (واجب شرعى) يحتمه الدين ويهمس به التاريخ في ضمائرهم
دائماً، غارقون في أمل إحياء حقبة تاريخية معينة يرونها مثالية ويتغاضون عن
سلبياتها ونزاعاتها وإختلاف أفكار أبطالها التاريخيين أنفسهم. عندما يصطدمون
بالواقع تكون المحصلة دائما أن الواقع خطأ أو حرام. عندما تفاجئهم مصطلحات معاصرة
مثل: الوطن، والحدود، والأمن الوطنى، أو الاستقلال الوطنى ... الخ ويرونها تمثل
عائقاً أمام استرداد فكرة الخلافة بحدودها المفتوحة الممتدة المتغيرة حسب قوة
الخليفة ونفوذ جيشه، فأنهم يلجأون الى الكفر بهذه المصطلحات جميعاً، ليس لأنهم غير
وطنيين او أن انتمائهم مشكوك فيه كلا، بل لأن هذه الأفكار لا تناسب مشروعهم.
فعندما تقرأ تصريحاً لأحدهم بأنه لا ضرر ان كانت حلايب وشلاتين تابعة لمصر أو
للسودان، أو فكرة منح سكان غزة وطناً بديلاً في سيناء، أو بيع ما يمكن بيعه من
أصول مصرية لدولة قطر أو تأجير الآثار .. الخ فلا تندهش فهم يظنون أن (المصلحة
واحدة)!
قبعة جبهة الإنقاذ، معظم
أفرادها من السياسيين أو من أرتبط تاريخهم بالنضال الشعبى أو الطلابى أو العمالى،
وبعضهم من الدبلوماسيين المحنكين. خبرتهم الممتدة تجعلهم يرون نهاية الطريق الذى
نقف في بدايته ويتوقعون المكان الذى يذهب بنا اليه إمتداد ذلك الخط الذى نسير فيه،
أو هكذا يعتقدون! كانت لهم – بلا شك - طموحاتهم السياسية وأحلامهم التي ارتسمت في
مخيلتهم وهم يتقدمون صفوف الثورة ويخططون مسيراتها ويكتبون شعاراتها ويرددون هتافاتها.
هؤلاء إن خاطبتهم (يا جماعة أدولوه فرصة) وطالبتهم بالصمت لا يقبلون، لا لأنهم
يريدون فشل الرئيس او لأن هدفهم ازدياد الوضع سوءاً وتنغيص حياة المصريين، لا
طبعاً. ولكن هم يرون الصمت خيانة وتخلى عن واجبهم الوطنى في إنارة الطريق أمام
الشعب ليعرف ويفهم ما يدور من حوله وما هو متوقع حدوثه نتيجة سياسات بعينها. هم
يرون أن واجب المعارضة القوية وخصوصاً إذا كانت شريكة في الثورة ومفجرتها أن تحدث
(وقف إجبارى) لأى مسار منحرف عن أهداف الثورة يريد الحاكم ان يسلكه. أيضاً لا
يمكنك أن تطالبه بمساعدة الحاكم وتقديم كل العون والخطط والمشروعات ودراسات
اقتصادية بلا أي مقابل سياسى، كيف يعطى كل رصيده لينجح غيره دون أن يجنى هو له أو
لحزبه أو تياره أي منصب سياسى يشجع به أنصاره ويعوضه سنوات الكفاح والنضال ويتخذه
منفذاً يطرح من خلاله مشروعه وفكره المتبلور عبر عشرات السنين؟!!
قبعة الأقباط، يتوزعون
بين تيارات سياسية شتى، ولكن جرحهم واحد. تدربوا على العيش تحت وطأة الظلم
والطائفية في ظل الحكم الوثنى، ثم المسيحى، ثم الإسلامي. ظلت حياتهم مهددة فضلاً
عن تجارتهم وأرزاقهم مرتهنة بمدى تعقل حاكم أو جنونه، بسماحة فتاوى الشيوخ أو
بتشددها. يؤلمهم التاريخ، والجغرافيا أيضاً! من جهة التاريخ هو حاضر أمامهم
باستمرار، ينظر القبطى إلى معصمه فيذكره الصليب المنقوش على يده بظلم بعض الحكام
في عصر الخلافة الإسلامية وتعسفهم المفرط تجاه الأقباط ، يتذكرون الخليفة المتوكل
وأبنه المنتصر اللذان فرضا على الأقباط الملابس والزنانير السوداء والزرقاء التي
مازال يلبسها رجال الدين الأقباط، وفرض عليهم ركوب الحمير فقط دون الخيول أو
البغال، وأعاد سيرته كثيرون بعده منهم الحاكم بأمر الله. عندما يزورون الأديرة
يرون مبنى قديم في كل دير أسمه "الحصن" كان يتحصن فيه الرهبان من هجمات
جيوش الخلفاء المتناحرين ظناً أن الأديرة تحوى كنوزاً قد تسهم في تغطية نفقات
حروبهم، ويتذكرون عبد الملك بن مروان الذى تفنن في الإغارة على الأديرة واغتصاب
الراهبات. يزورون مصر القديمة وأطلال مريوط ووداى النطرون ويذكرون ما قرأوه عن
الآف الكنائس والأديرة التي خربها الأمراء ليشيدوا بأعمدتها الرخامية والمرمرية
مساجد تخلد أسماؤهم وممن برعوا في ذلك قرة بن شريك وأحمد بن طولون. يذهبون الى
المقابر فيتذكرون الوليد بن عبد الملك الذى منع الأقباط من دفن موتاهم إلا بعد دفع
مبالغ طائلة من المال وصار المثل المصرى المتوارث "موت وخراب ديار".
هؤلاء لا تحدثهم عن استعادة أمجاد الخلافة والإمبراطورية الإسلامية فهم أدرى الناس
بها وبأمجادها التي كانت وبالاً عليهم. ولا تحدثهم عن حق أعضاء "الجماعة
الإسلامية" في ممارسة العمل السياسى فلا يكاد يخلو بيت قبطى من شهيد على
أيديهم او بسبب فتاوى شيوخهم. هذا عن التاريخ، أما عن الجغرافيا فهى لا تحمل لهم
أخباراً أكثر طمأنينة من التاريخ، فينظر القبطى حوله إلى الدول التي أعتمدت
الشريعة الإسلامية دستوراً وأعتنقت المشروع الإسلامي بصيغته الوهابية المتشددة إلا
وتحزن على وضع المسيحيين فيها وطريقة تعامل الدولة معهم. هؤلاء يحتاجون إلى أكثر
بكثير جداً من مجرد النوايا الطيبة لكى يطمأنوا ويشاركونك البناء.
وأخيراً، قبعة السلبيين،
وهى قاعدة عريضة متذمرة بإستمرار وشاكرة أيضاً باستمرار! لا يهمهم مشروعك السياسى
ولا خطتك الاقتصادية ولا أهدافك الوطنية أو حلمك القومى. فقط يهمهم أن الراتب
الشهرى لا ينقص، الأسعار لا ترتفع، حتى وإن كان يستحق أجراً أكبر. يهمه أن يكون
الشرطى جاهزاً لردع المجرمين، ولا يهم إن كان نفس الشرطى يوسعه ضرباً وإهانة أو
على الأقل يحتجزه أياماً لمجرد الإشتباه. لا يهمه أن يكون الحاكم لصاً أو خائناً
أو مستبداً ولكن يريحه أن يكون الحاكم مسيطراً ومستقراً في سياسته أياً كانت.
هؤلاء يكرهون الثوار لأنهم يعطلون مرورهم في الشارع أثناء عودتهم من العمل الى
حياتهم البائسة، ويكرهون المعارضة لأنها
تهدد استقرارهم الكئيب و تحرك المياه الراكدة المتعفنة فيتعبهم إنبعاث رائحتها
الكريهة وتطاير حشراتها المزعجة، ينقمون على الحاكم والمحكوم وعلى المؤيد
والمعارض، ولكنهم لا يشاركون في أي تغيير ولا يرهقون أنفسهم سوى في التنظير
والمزايدة وكيل الإتهامات وترديد الشائعات. هؤلاء لا تتوقع منهم الثورة ولا ترجو
منهم التأييد أو المساندة، أقصى ما يستطيعون فعله هو (الفرجة) من على (الكنبة)
ينتظرون إنطلاق صافرة الحكم ليعرفوا لمن سوف يهللون ولمن يجب أن يخرجوا ألسنتهم!!
ختاماً، كل هذه القبعات
وغيرها مجرد خطوط في لوحة الوطن ونغمات في سيمفونيته، من يحاول محو أياً منها جاهل
وأحمق، ولكنها فقط تحتاج الى الفنان الحقيقى والمايسترو المبدع الذى ينسقها
ويرتبها ويوزعها ليستمتع الجميع بوطن جميل متناسق صوتاً وصورة.http://www.wataninet.com/watani_Article_Details.aspx?A=39242